سورة التكوير - تفسير تفسير الثعلبي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التكوير)


        


{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10)}
{إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس: أظلمت، عطية عنه: ذهبت، مجاهد: أضمحلت، قتادة: ذهب ضوؤها، سعيد بن جبير: عوّرت وهي بالفارسية كوريكرد. أبو صالح: نكست، وعنه أيضاً: أُلقيت، يقال: طعنه فكوّره، أي: ألقاه، ربيع بن هيثم: رُمي بها. واصل التكوّر في كلام العرب جمع بعض الشيء إلى بعض كتكوير العمامة، وهو لفّها على الرأس، وتكوير الكارة من النبات، وهو جمع بعضها إلى بعض ولفّها، فمعنى قوله: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ}: جمع بعضها إلى بعض، ثم لف فرمي بها وإذا فعل ذلك بها ذهب ضوئها، دليله ونظيره قوله سبحانه {وَجُمِعَ الشمس والقمر} [القيامة: 9].
{وَإِذَا النجوم انكدرت} أي تناثرت من السماء فتساقطت على الأرض ويقال: انكدر الطائر أي سقط عن عشّه.
قال العجاج:
أبصر ضربان فضاء فانكدر.... وانكدر القوم إذا جاؤا أرسالا حتى انصبوا عليهم، قال ذو الرمّة:
فانصاع جانبه الوحشي وانكدرت *** يلجبن لا يأتلي المطلوبُ والطّلبُ
ابن عباس: تغيّرت.
{وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ} عن وجه الأرض فصارت هباء منبثاً {وَإِذَا العشار} وهي النوق الحوامل التي أتى على حملها عشرة أشهر واحدتها عُشراء، ثم لا يزال ذلك اسمها حتى تضع لتمام سنة وهي أنفس ما تكون عند أهلها وأعزّها عليهم. {عُطِّلَتْ} سُيّبت وأهملت تركها أربابها وكانوا [....] لأذنابها فلم تركب ولم تحلب، ولم يكن في الدنيا مال أعجب إليهم منها. لاتيان ما يشغلهم عنها.
{وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ}.
أخبرنا عبد الخالق قال: أخبرنا ابن حبيب قال: حدّثنا أبو العباس البرتي قال: حدّثنا أبو نعيم قال: حدّثنا سفيان عن أبيه عن عكرمة عن ابن عباس {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} قال: حشرها موتها، وقال ابن عباس: حشر كلّ شيء الموت غير الجنّ والإنس فإنهما يوقفان يوم القيامة، وقال أُبيّ بن كعب وإذا {الوحوش حُشِرَتْ} أي اختلطت. قتادة: جمعت، وقيل: بعثت ليقضي الله بينها.
{وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} قرأ أهل مكّة والبصرة بالتخفيف وغيرهم بالتشديد، واختلفوا في معناه فقال ابن زيد وشمر بن عطيّة وسفيان ووهب: أُوقدت فصارت ناراً.
قال ابن عباس: يكوّر الله الشمس والقمر والنجوم في البحر فيبعث عليها ريحاً دبوراً فينفخه حتى يصير ناراً.
وقال مجاهد ومقاتل والضحّاك: يعني فجر بعضها في بعض العذب والملح فصارت البحور كلّها بحراً واحداً.
قال الحلبي: ملئت، ربيع بن حيثم: فاضبّت، الحسن: يبست، قتادة: ذهب ماؤها فلم يبق فيها قطرة، وقتل: صارت مياهها بحراً واحد له من الحميم لأهل النار.
وأخبرنا عقيل أنّ أبا الفرج أخبرهم عن ابن جرير قال: حدّثنا الحسن بن الحريث قال: حدّثنا الفضل موسى عن الحسين بن واقد عن الربيع بن أنس عن أبي العالية قال: حدّثني أُبيّ بن كعب قال: ستّ آيات قبل يوم القيامة بينما الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم فبينما هم كذلك إذ وقعت الجبال على وجه الأرض فجردت واضطربت واحترقت وفزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن واختلطت الدواب والطير والوحش وماج بعضهم في بعض فذلك قوله سبحانه {وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ} قال: اختلطت {وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ} قال: أهملها أهلها {وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ} قال: قالت الجن للإنس: نحن نأتيكم بالخبر، فانطلقوا إلى البحر فإذا هي نار تأجج.
قال: فبينما هم كذلك إذ تصدّعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة وإلى السماء السابعة العليا، قال: فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم.
{وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} أخبرنا الحسن قال: أخبرنا السُني قال: أخبرنا أبو يعلي قال: حدّثنا محمد بن بكار قال: حدّثنا الوليد بن أبي نور عن سماك عن النعمان بن بشير أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} قال: الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله».
وأخبرنا عبد الله بن حامد قال: حدّثنا محمد بن يعقوب قال: حدّثنا محمد بن خالد قال: حدّثنا أحمد بن خالد الوهبي قال: حدّثنا إسماعيل عن سماك بن حرب إنّه سمع النعمان بن بشير يقول: قال عمر بن الخطاب: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} قال: الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح، قال ابن عباس: ذلك حتى يكون الناس أزواجاً ثلاثة، وقال الحسن وقتادة: أُلْحِقَ كلّ امريء بشيعته، اليهود باليهود والنصارى بالنصارى، الربيع بن خيثم بحشر المرء مع صاحب عمله: مقاتل: زوجت نفوس المؤمنين بالحور العين ونفوس الكافرين بالشياطين نظيرها {احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ} [الصافات: 22]، وقيل: زوجت النفوس بأعمالها.
وأخبرنا محمد بن حمدون قال: أخبرنا مكي قال: حدّثنا حمد بن الأزهر قال: حدّثنا أسباط عن أبيه عن عكرمه في قوله سبحانه: {وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ} قال زوّجت الأرواح في الأجساد.
{وَإِذَا الموءودة} وهي الجارية المقتولة المدفونة حيّة سمّيت بذلك لما يطرح عليها من التراب فيؤدها أي يثقلها حتى تموت، قالوا: وكان الرجل من العرب إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحيها ألبسها جبّة من صوف أو شعر ترعى الإبل والغنم في البادية وإذا أراد أن يقتلها تركها حتى إذا صارت سداسية قال أبوها لأمها طيّبيها وزيّنيها حتى أذهب بها إلى أحمائها وقد حفر لها بئراً في الصحراء فإذا بلغ بها البئر قال لها: انظري إلى هذا البئر فيدفعها من خلفها في البئر لم يهيل على رأسها التراب حتى يستوي البئر بالأرض، فذلك قوله سبحانه وتعالى {أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب} [النحل: 59] وقال ابن عباس: كانت المرأة في الجاهلية إذا حملت وكان أوان ولادتها حفرت حفرة فتمخضت على رأس الحفرة فإذا ولدت جارية رمت بها في الحفرة، وإن ولدت غلاماً حبسته، وكانت طوائف من العرب يفعلون ذلك وفيه يقول قائهلم:
سميتها إذ ولدت تموت *** والقبر صهر ضامن رميت
وقال قتادة: كان أهل الجاهلية يقتل أحدهم ابنته ويغذو كلبه فعاب الله تعالى ذلك عليهم وأوعدهم.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن حمدان أن قال: حدّثنا الفراتي قال: حدّثنا محمد بن مهدي الأبلي ويحيى بن موسى قالا: حدّثنا عبد الرزاق قال: أخبرنا إسرائيل بن يونس عن سماك ابن حرب عن النعمان بن بشير قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في قول الله سبحانه: {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ} قال: جاء قيس بن عاصم التميمي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله إني وأدت ثمان بنات في الجاهلية، قال: «فأعتق عن كلّ واحدة منهم رقبة».
قال: يا رسول الله إني صاحب إبل. قال: «فانحر عن كل واحدة منهنّ بدنة إن شئت».
{سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} قراءة العامة على الفعل المجهول فيهما، ولها وجهان: أحدهما: سئلت هي فقيل لها: بأي ذنب قتلت وبأي فجور قتلت؟ كما يقال: قال عبدالله إنه ذاهب وإني ذاهب، وقال عبد الله بأي ذنب ضربت وبأي ذنب ضرب، كلاهما سائغ جائز، والآخر: سُئل عنها الذين وأدوها كأنّك قلت: طلبت منهم فقيل: أين أولادكم وبأي ذنب قتلتموهم.
وأخبرنا الحسن بن محمد بن عبد الله المقريء قال: أخبرنا البغوي ببغداد قال: حدّثنا ابن أبي شيبة قال: حدّثنا زياد بن أيوب دلويه قال: حدّثنا هشام عن رجل ذكروا أنه هارون، قال زياد: ولم اسمعه أنا من هاشم عن جابر بن زيد أنه كان يقرأ {وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ} ومثله قرأ أبو الضحى ومسلم بن صبح.
{وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ} قرأ أهل المدينة والشام والبصرة إلاّ أبا عمرو بالتخفيف غيرهم بالتشديد لقوله سبحانه {صُحُفاً مُّنَشَّرَةً} [المدثر: 52].
أخبرني الحسين قال: حدّثنا هارون قال: حدّثنا اليسيّري قال: حدّثنا سعيد بن سليمان عن عبد الحمد بن سليمان قال: حدّثنا محمد بن أبي موسى عن عطاء بن بشار عن أم سلمه قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يحشر الناس يوم القيامة عراة حفاة» قالت يا رسول الله كيف بالنساء؟ قال: «شغل الناس يا أم سلمة» قالت: وما شغلهم قال: «نشر الصحف فيها مثاقيل الذر ومثاقيل الخردل».


{وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14) فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)}
{وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ} أي فعلت ونزعت وجذبت عن أماكنها ثم طويت، وفي قراءة عبد الله: قشطت بالقاف وهما لغتان، والقاف والكاف في كلام العرب يتعاقبان مخرجيهما كما يقال: الكافور والقافور والقف والكُف.
{وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ} قرأ أهل المدينة بالتشديد غيرهم بالتخفيف واختاره أبو عبيد وأبو حاتم، لأنها واحدة واختلف فيه بن عاصم وبن عامر، ومعناه: أوقدت، قال قتادة: سعّرها غضب الله وخطايا بني آدم.
{وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ} قرّبت لأهلها نظيرها قوله: {وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ} [الشعراء: 90] {عَلِمَتْ} عند ذلك {نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ} من خير أو شرّ وهو جواب لقوله: {إِذَا الشمس} وما بعدها كما يقال: إذا قام زيد قعد عمر، وقال ابن عباس في قوله: {إِذَا الشمس كُوِّرَتْ} إلى قوله: {عَلِمَتْ}: اثنتا عشرة خصلة ستة في الدنيا وستة في الآخرة.
{فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس} قال قوم: هي النجوم الخمسة الذراري السيارة تخنس في مجارتها فترجع ورائها ويكنس في وقت اختفائها غروبها كما يكنس الظباء في مغارها، وقال قتادة: هي النجوم تبدوا بالليل وتخفى بالنهار فلا تُرى ودليل هذا التأويل ما روى شعبة عن سماك عن خالد بن عرعرة أن رجلا من مراد قال لعلي: ما الخنس الجوار الكنس؟ قال: هي الكواكب تخنس بالنهار فلا تُرى وتكنس بالليل فتأوي إلى مجاريها، وهي بهرام وزحل وعطارد والزهرة والمشتري، قال ابن زيد: معنى الخنس: أنها تخنس أي تتأخر عن مطالعها كل سنة لها في كل عام تأخر يتأخره عن تعجيل ذلك الطلوع يخنس عنه والكنس يكنسن بالنهار فلا تُرى.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن النواب قال: حدّثنا رضوان بن أحمد بن عبد الجبار قال: حدّثنا أبو معونة عن الأعمش عن إبراهيم عن عبد الله في قوله سبحانه: {الجوار الكنس} قال: هي بقر الوحش، وإليه ذهب إبراهيم وجابر بن زيد وقال سعيد بن جبير: هي الظباء وهي رواية العوفي عن ابن عباس.
وأصل الخنس الرجوع إلى وراء، والكنوس أن يأوي إلى مكانسها، وهي المواضع التي يأوي إليها الوحش قال الأعشى:
فلما لحقنا الحي أتلع أنس *** كما أتلعت تحت المكانس ربرب
ويقال لها الكنايس أيضاً، قال طرفه بن العبد:
كأن كناسي ضالة يكنفانها *** وأطرقسي تحت صلب مؤيد
وقال أوس بن حجر:
ألم تر أن الله أنزل مزنه *** وعفر الظباء في الكناس تقمع
{والليل إِذَا عَسْعَسَ} قال الحسن: أقبل بظلامه، وقال الآخرون: أدبر، يقول العرب: عسعس الليل وسعسع إذا أدبر ولم يبق منه إلاّ اليسير، قال علقمة بن فرط:
حتى إذا الصبح لها تنفسا *** وانجاب عنها ليلها وعسعسّا
وقال رؤبة:
يا هند ما أسرع ما تسعسعا *** من بعد أن كان فتى سرعرعا
من بعد إن كان فتى سرّعرعا.
{والصبح إِذَا تَنَفَّسَ} أقبل وأضاء وبدأ أوله وقيل: أمتد وارتفع.
{إِنَّهُ} يعني القرآن {لَقَوْلُ} لتنزيل {رَسُولٍ كَرِيمٍ} وهو جبريل عليه السلام {ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ * مُّطَاعٍ ثَمَّ} في السماء يطيعه الملائكة {أَمِينٍ} على الوحي {وَمَا صَاحِبُكُمْ} محمد {بِمَجْنُونٍ * وَلَقَدْ رَآهُ} يعني جبريل على صورته {بالأفق المبين} وهو الأفق الأعلى من ناحية المشرق الذي يجيء منه النهار، قاله مجاهد وقتادة.
أخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا مخلد قال: حدّثنا ابن علويه قال: حدّثنا إسماعيل قال: حدّثنا إسحق بن بشر قال: حدّثنا ابن جريح عن عكرمة، ومقاتل عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لجبريل: «إني أحبّ أن أراك في صورتك التي تكون فيها في السماء» قال: لن تقوى على ذلك، قال: «بلى» قال: فأين تشاء أن أتخيل لك؟ قال: «بالأبطح» قال: لا يسعني قال: «فبمنى» قال: لا يسعني قال: «فبعرفات» قال: ذاك بالحرى أن يسعني، فواعده فخرج النبي صلى الله عليه وسلم للوقت، فإذا هو بجبريل عليه السلام قد أقبل من جبال عرفات بخشخشه وكلكله قد ملأ ما بين المشرق والمغرب ورأسه في السماء ورجله في الأرض، فلما رآه النبي صلى الله عليه وسلم خرّ مغشياً عليه فتحوّل جبريل في صورته فضمّه إلى صدره، وقال: يا محمد لا تخف، فكيف لو رأيت إسرافيل ورأسه من تحت العرش ورجلاه في النجوم السابعة، وإن العرش لعلى كاهله، وإنّه ليتضائل أحياناً من مخافة الله عزّوجل حتى يصير مثل الوضع يعني العصفور حتى ما يحمل عرش ربك إلاّ عظمته.
{وَمَا هُوَ} يعني محمد صلى الله عليه وسلم {عَلَى الغيب} أي الوحي وخبر السماء وما اطّلع عليه من علم الغيب {بِضَنِينٍ} قرأ زيد بن ثابت والحسن وابن عمرو والأشهب وعاصم والأعمش وحمزة وأهل المدينة والشام بالضاد، وكذلك في حرف أُبيّ بن كعب ومصحفه، وهي قراءة ابن عباس برواية مجاهد واختيار أبي حاتم ومعناه: يبخل يقول: يأتيه علم الغيب وهو منقوش فيه فلا يبخل به عليكم بل يعلّمكم ويخبركم به، يقول العرب: ضننت بالشيء بكسر النون أضن به ضناً وضنانة فأنا ضنين، أي بخيل، قال الشاعر:
أجود بمضنون التلاد وانني *** بسرك عمن سالني لضنين
وقرأ الباقون بالظاء وكذلك هو في حرف ابن مسعود ومصحفه وهي قراءة عبد الله وعروة ابني الزبير وعمر بن عبد العزيز وأبي عبد السلمي ورواية سعيد بن جبير عن ابن عباس ومعناه يتهمهم يقال: فلان يُظن بمال ويزن بمال أي يتهمّ به، والظنّة: التهمة، قال الشاعر:
أما وكتاب الله لا عن شناءة *** هجرت ولكن الظنين ظنين
واختار أبو عبيد هذه القراءة وقال: أنهم لم يبخّلوه فيحتاج أن ينفى عنه ذلك البخل، وإنما كذّبوه واتهموه، ولأنّ الأكثر من كلام العرب ما هو بظنين بكذا ولا يقولون على كذا إنّما يقولون: ما أنت على كذا بمتهم، وقيل بظنين.
بضعيف حكاه الفراء والمبرّد يقال: رجل ظنين أي ضعيف، وبئر ضنون إذا كانت ضعيفة الماء، قال الأعشى:
ما جعل الجد الظنون الذي *** جُنّب صوب اللجب الماطر
مثل الفراتي إذا ما طما *** يقذف بالبوصي والماهر
{وَمَا هُوَ} يعني القرآن {بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} يعني قال: أين تعدلون عن هذا القرآن، وفيه الشفاء والبيان، قال الكسائي: سمعت العرب تقول: انطلق به الغور، وحكى الفراء عن العرب: ذهبت الشام وخرجت العراق وانطلقت السوق، أي [.....] قال سمعناه في هذه الأحرف الثلاثة وأنشدني بعض بني عقيل:
تصيح بنا حنيفة إذ رأتنا *** وأي الأرض تذهب بالصياح
يريد إلى أي الأرض تذهب.
وقال الواسطي: فأين تذهبون من ضعف إلى ضعف ارجعوا إلى فُسحة الربوبيّة ليستقر بكم القرار، وقال الجنيد: معنى هذه الآية مقرون بآية اخرى وهو قوله سبحانه وتعالى: {وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ} [الحجر: 21] فأين يذهبون.
{إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} أي يتبع الحق ويعمل به ويقيم عليه ثم قال: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} أخبرنا أبو بكر بن عبدوس المزكى قال: أخبرنا أبو حامد بن بلال البزاز قال: حدّثنا أحمد بن يوسف السلمي قال: حدّثنا أبو مسهر قال: حدّثني سعيد عن سليمان بن موسى قال: لما أنزل الله سبحانه وتعالى {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قال أبو جهل بن هشام: ذاك إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم، فأنزل الله سبحانه {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين}.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا ابن شنبه قال: حدّثنا الفرمي قال: حدّثني مالك بن سليمان قال: حدّثنا بقية عن عمر بن محمد عن زيد بن أسلم عن أبيه عن أبي هريرة قال: لمّا أنزل الله سبحانه على رسوله: {لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ} قالوا: الأمر إلينا إن شئنا استقمنا وإن شئنا لم نستقم فأنزل الله سبحانه وتعالى: {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين}.
وأخبرني ابن فنجويه قال: حدّثنا محمد بن عمر بن مهران قال: حدّثنا أبو مسلم الكنجي قال: حدّثنا جعفر بن جبير بن فرقد قال: سمعت رجلا سأل الحسن عن قول الله سبحانه وتعالى {وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين} فقال الحسن: والله ما شاءت العرب الإسلام حتى شاء الله لها.
وأخبرني الحسن قال: حدّثنا أحمد بن علي بن الحسين قال: حدّثنا علي بن أحمد بن بسطام قال: حدّثنا إبراهيم بن الحجاج الشامي قال: حدّثنا حماد بن سلمة قال: حدّثنا أبو سنان عن وهب بن منبّه قال: الكتب التي أنزلها الله سبحانه على الأنبياء بضع وتسعون كتاباً قرأت منها بضعاً وثمانين كتاباً فوجدت فيها من جعل لنفسه شيئاً من المشيئة فقد كفر.
قال الواسطي: أعجزك في جميع أوصافك فلا تشاء إلاّ مشيئته ولا تعمل إلاّ بقوته ولا تطيع إلاّ بفضله ولا تعصي. إلاّ بخذلانه فماذا يبقى لك وماذا تفتخر من أفعالك وليس من فعلك شيء؟.